Tuesday, 28 April 2015

الرقاط ما فضيحة !!

 

 

 

 

إهداء : إلى روح أمي التي دفعتني لآخر العالم لأدرس ، بحثاً عن علم ٍيؤطر بعض دروسي منها !

 

في ذلك الزمن الذي كنت فيه طفلة ، كان صيف القرية الذي هو في الأصل إجازة المدارس، لا مجال للنوم  فيه ، فالمكيف يتم إغلاقه بعد آذان الفجر مباشرة ، لنذهب للصلاة ، وعندما كنا نحاول العودة للسرير الذي ما زال البرود يكتنفه من جراء ليلة كاملة من " هدرة " التكييف ، كانت " مجمعة أمي " لنا بالمرصاد ، والاختيار دائما بين أن نصحو من النوم لأداء المهمة الأزلية الصيفية لمن كان في مثل أعمارنا ، أو قضاء اليوم كاملاً نختبي من مكان للآخر حتى لا تطالنا " ضربات أمي " .

 بعيون شبه مغمضة  نتلمس طريقنا إلى مزارع القرية ، وفي الطريق نجد أجساداً أيضا متجهة لنفس وجهتنا وبنفس العبوس الذي يعتلي وجوهنا ،و في يد كل منا "سطل صغير" ، تقول قواعد المهنة  أنه لابد أن يمتليء قبل أن نعود للبيت وإلا ... أحسبكم تعرفون الإجابة .

"الرقاط " وفي لهجات آخرى " اللقاط " هي المهمة الصباحية التي كانت تنتظر أغلب أطفال القرية في زمن طفولتي ، حيث يغادر الأطفال بعد صلاة الفجر مباشرة وبأيديهم أواني مختلفة الألوان والأحجام ،كلٌ بحسب عمره وخبراته في هذا المجال ، فكلما زاد العمر كبر حجم الإناء ، وأصبح العودة للمنزل والإناء لم يمتليء من الأخطاء التي لا يمكن اغتفارها !

 و الغريب أن الأهالي يومها لم يكن يخطر ببالهم أن  أطفالهم  قد يصادفهم أحد من " الجن " في ذلك الظلام الدامس الذي يغادرون فيه منازلهم ،  فالقرية كانت صغيرة ، وأعمدة إنارة الشوارع لم تكن قد وجدت مكانها ، ومع ذلك لم نسمع في طفولتنا عن حالات صادفت جنياً، وربما لو حدث ذلك كانت أمي أعتقت نعاسنا من الصحو باكراً.

و الرقاط هذا الذي كان سبباً في أزمة أطفال جيل قريتي قائم على : جمع ثمار النخيل التي تساقطت من حركة الهواء الطبيعية ، بهدف تجمعيها لاحقاً كغذاء للمواشي في حال كونها " خلال " أو للبيع كغذاء للمواشي أيضاً في حال كونها تمراً .

والعملية ليست سهلة كما قد تبدو ، فأول درس يجب أن تتعلمه قبل أن تستلم "سطلاً" يحمل اسمك ويرافقك زمناً أن للرقاط مباديء وأخلاقيات مثل أي مهنة في الحياة .

 و أول درس تعلمناه من أمي عن هذه المباديء كان في عبارة قالتها " ترقطن بس من المزارع المفتوحة ، النخيل المصوّنات ما تدخلهن " وترجمة كلام أمي هو أن لا نتسلق جدارن المزارع التي قام أصحابها بتسوريها رغبة منهم  في الحفاظ على ثمار النخيل من عموم الراقطين" أمثالنا " 

فأحيانا قد تسول نفس "الراقط" الكسولة الراغبة في ملء الإناء بسرعة في أن يتسلق سوراً لمزرعة "مصوّنة" فقط لأنه يشك أن هذا المكان كونه مغلقاً ولا يرتاده أحد فمن الطبيعي أن يجد ثماراً كثيرة على الأرض لم يلتقطها أحد،وكثيرا ما سمعنا عن أطفال سقطوا خلال تسلقهم الجدران ، لكننا لم نجرؤ يوماً على تسلق جدار ، ليس خوفاً من السقوط وإنما لأن أمي كانت تقول أنه حرام .

وفي رحلة الرقاط يصادف الأطفال عدداً من الصعوبات التي يجب التعامل معها في حينها ، فقد يتعرض " الراقط " لدخول شوك النخيل أو ما يعرف محليا "السلا"  في مختلف مناطق الجسد ولعملية إخراج السلا تفاصيل دقيقة قد نأتي على ذكرها في مدونة لاحقة . 

كما أننا نحن عموم الراقطين كثيرا ما تعرضنا "لانقطاع نعلاننا" و كنا أما أن نصلح النعال وأما أن نمشي حافيين للبيت ونتعرض أيضاً لبعض التوبيخ. 

ولأنني بدأت رحلة الرقاط باكراً فكان لابد أن ترافقني إحدى أخواتي ، بمعني أن نكون في مزرعة واحدة وهي ترقط من اتجاه وأنا من اتجاه ثم نلتقي في نقطة محددة لنرى حجم انجازاتنا ، و كم كانت إنجازاتي مخيبة ! فأنا لا تروق لي كل أنواع الثمر ، لذا كنت أقوم بتجميع  الأنواع التي تتناسب وذائقتي فقط. 

ورحلة الرقاط لا تخلو من بعض المتعة ، إذ أن المزارع كانت بجانب الأفلاج ،فكنا كثيرا ما ننهي عملية الرقاط بالغوص في الفلج لبعض الوقت ، لنخرج بعدها مبللين لتتلقفنا حرارة شمس القيظ وتجفف ما بقى منا قبل وصولنا لمنازلنا ، كما أن بعض الأطفال ممن يأكلون الجراد ، لا ينسون أن يقوموا بصيد بعض الجراد قبل عودتهم للمنزل ، وكم كانت بعض الأسر تفتخر بطفلها لو جاء بسطل مملوء بالرقاط وعلبة مياه معدنية مملوءة بالجراد .  

و الرقاط عادة كنا نمارسه في فترة الصباح إلا لو قدر الله وجاءت ريح شديدة في فترة المساء، والرياح ومن سوء حظنا كانت غالباما تزورنا مساءً ،فنجد أنفسنا ملاحقين للذهاب مجدداً للمزارع لأنها فترة ذهبية للرقاط فمادامت الرياح مستمرة فثمر النخيل سيتساقط  بغزارة و" سطولنا" ستمتليء حتماً.

وهنا أستغرب مجددا أن الأهالي أيضا لم يفكروا في إمكانية أن تسقط فوق رؤوسنا النخيل خصوصا في فترة اشتداد الرياح ، فأنا اذكر أنني كنت " أرقط " وعيناي على النخلة المتمايلة من جراء الرياح ، أعترف أني كنت أخاف سقوطها علي ، كي لا تؤخرني عن الذهاب لمكان آخر لملأ سطلي .


كبرنا وأصبحنا نشعر بالإحراج من الذهاب للرقاط و هذا دفعني يوماً لأن أقول لأمي " فضيحة أنا الأولى على فصلي وزميلاتي يشوفني أروح أرقط " اعتقد بلهجة اليوم كان قصدي " وين برستيجي أمام زميلات الفصل " ؟، و يومها ردت أمي بعفوية محببة أستعيدها الآن  " الرقاط ما فضيحة ، الفضيحة للّي يسوي الفضيحة ".


 

 

 

تونس المحروقي 


بيرث ٢٧/٤/٢٠١٥ 

2 comments:

  1. الله يرحمها ويغمد روحها الجنه... ربت ابنه مبدعه ولاشك ابداعك مستمد من إبداعها.... عشت دقائق بعيده مع تدوينتك لم اعيشها في واقعي.. فنحن أبناء العاصمه لم نجد هذه المغامرات في حياتنا وعيشتنا التي قد نقول عنها تمدن... صيفنا بين الشوارع والسياكل وان تشابهنا في إجبار ابكارنا في الاستيقاظ... جميله هي ذكريات القرى والبساطة فيها... سلمت اناملك

    ReplyDelete
  2. اول مره ازور مدونتك واقراء ما ابدعتي في وصفه وكم كان مشابهن لحالي وحال اخوتي واعتقد حال كل من عاش دمن الرقاط او الجداد بلهجتنا،نعيش كل التفاصيل متشابهه مع اختلاف جزيئيات صغيره مثل امي كانت تحمينا من ضرب والدي عندما كان يصر على ذهابنا فور عودتنا من المدرسه في منتصف الظهيره ومن كان يختبي او يتكاسل فاليستعد ليوم اسود وغد خالي من المصروف. لكنها ايام صنعت منا رجال.
    شكرا لابي ولامي ولك انتِ لما عشتها من لحظات كد انساها بعض الشي
    fahadaly

    ReplyDelete

من شرفة محطة الرمل !

من شرفة محطة الرمل . تونس المحروقي إهداء إلى : • الفتاة التي كانت تبيع حقائب الأجهزة الإلكترونية في محل متواضع ...