في طفولتنا المبكرة في القرية الصغيرة كنا ننتظر العيد بفارغ الصبر ونبدأ بحساب الأيام التي تفصلنا عنه قبل حلوله بشهور ونسعد كثيرا بتقلص المدة المتبقية والتي تحول بيننا وبين ذلك الفرح الذي يدعي العيد، فالعيد بالنسبة لطفلة لم تتجاوز العاشرة يومها يتمثل فقط في الذهاب لما يعرف في العاصمة مسقط وبعض المدن العمانية الآخرى ب"العيود "لشراء الألعاب التي ما كانت لتشتريها لولا تلك العيدية التي حصلت عليها قبل العيد بأيام من الوالد وبعض الأهل والجيران
***
يأتي صباح العيد فنرتدي ملابسنا التي تختلف كثيرا عن الملابس التي يرتديها أطفال هذه الأيام ، فتلك كانت بسيطة جدا على عكس ما نراه اليوم من ملابس تعانق الأناقة والجمال في آن واحد ورغم ذلك فقد كانت ملابس طفولتنا تنسدل على أجسامنا بجمالية تسهم في زرع ذلك الفرح الطفولي في نفوسنا لنرقص بها ونزين الدروب التي نمشي عليها بضحكاتنا البرئية وأحلامنا في امتلاك كل الألعاب المعروضة في العيود .
قبل العيد بأيام نبدأ أنا وأخواتي في كي المبالغ التي جمعناها ، حيث كنا نستخدم مكواة الملابس في ذلك ، معتقدين أن العيد لن يقبل إلا العملات الجديدة ، نقوم بتلك العملية بإستمتاع غريب ، ونعاود الكرة كل يوم رغم أن النقود تبدو جديدة من كثرة كينا لها ، لكن من يقنعنا نحن يومها بالتوقف ؟
***
نذهب في الصباح الباكر لبيت جدي لنسلم على أفراد العائلة الكبيرة ونقول " هنيتم بركات العيد " كما علمتنا أمي أن نقول ، نقول ذلك وأعيننا مصوبة نحو جيوبهم العامرة بانتظار اللحظة الفاصلة التي يمد فيه الشخص يده لجيبه ليخرج المبلغ ويسلمنا إياه فنضعه بسرعة في حقائبنا الصغيرة وكأننا نخاف أن نفقده ، تلك الحقائب التي تحمل أيضا المبالغ الإضافية التي قد وفرناها من المصروف اليومي حتى نستطيع أن نشترى من ذلك العيود أكبر الدمى وأجملها ولا نكتفى بشراء دمية بل دمى متعددة وبأشكال وألوان مختلفة حتى تكون سعادتنا بذلك العيد أكبر من الأعياد السابقة .
لا أنسى هنا أن اتذكر أنه كان يحدث أحيانا أن تمطر السماء قبل العيد بيوم ، فيخبر الأهالي أطفالهم في كل بيت أنه لن يكون هناك عيود في اليوم الذي يليه لأن أرضية السوق ـ التي كانت تحتضن العيود ـ مليئة بالبرك المائية لذا لن يستطيع الباعة أن يعرضوا الألعاب التي جلبوها من أجل هذه المناسبة خوفاً عليها من البلل ، كنا حينها نتضرع لله ببراءة الأطفال أن تتوقف تلك الأمطار حتى لا تفسد فرحة العيد التي انتظرناها طويلاً ، ننام تلك الليلة وجفوننا شبه مفتوحة لنتابع إن كان المطر قد توقف أم لا وكم تكون فرحتنا كبيرة عندما نجد أن المطر قد توقف ـ رغم حبنا للمطر في غير أوقات العيد ـ فنمني أنفسنا بأن تجف أرضية السوق سريعاً لأن موعد العيود بعد سويعات.
***
ننطلق فرحين للعيود ونظل نتجول فيه ونرى المعروضات الجميلة من المأكولات والألعاب التي تتجدد في كل عيد ،وهناك نلتقي بزميلات الفصل وقريباتنا وجميع من نعرفهم ومن لا نعرفهم أيضا ، فالكل يأتي لهذا المكان فلا مكان آخر يجمع الأطفال يومها . كنا رغم صغر أعمارنا نلاحظ ما تلبسه هذه البنت من ملابس ، والحقيبة التي تحملها تلك وقد نعلق على بعض ما نراه في العيود ، ولم يكن يفسد علينا تجوالنا وفرحنا ذلك إلا الفتيان المزعجين الذين يأتون لإزعاج الفتيات أكثر من رغبتهم في شراء شيءٍ من الألعاب ، كانوا يرمون المفرقعات في وجوه الفتيات فيصرخن بخوف غير مصطنع ، ويندلع صوت ضحكاتهم عاليا مستمعين بمشاهدة آثار أفعالهم على وجوه الفتيات .
كنا نقضي ساعتين أو أكثر في ذلك المكان ومع ذلك لم نكن أبداً نشعر بملل ولا رغبة في الانصراف ، لكن كلما تأخرنا في تجوالنا كلما زاد توافد الأولاد العابثين ، لذا كنا نؤثر الرحيل قبل أن تنفجر إحدى تلك المفرقعات على ملابسنا الجديدة وتحرقها فلا نسلم من كلمات التقريع في البيت عندما نعود !
كنا قد تعودنا في كل عيد أن نشترى هدية لأمي قبل أن نعود للبيت ولا أتذكر من علمنا هذه العادة ولا من كان صاحب فكرة هذا الاقتراح ،ولماذا لم نكن نشتري لأبي مثلاً هدية شبيهة بها ؟
المهم أنه أصبحت أنا وأخواتي نجمع مبلغاً لنشترى به هدية مناسبة والتي غالبا ما تكون من المأكولات ، حينها كنا أطفالاً و كنا نجهل قواعد اختيار الهدية المناسبة والتي تليق بمساحة الحب التي نحملها لها في قلوبنا .
ومع أن هذا الحدث كان يتكرر في كل عيد إلا أن أمي كانت تفرح بتلك الهدية المتواضعة في كل مرة وكأنها تستلمها للمرة الأولى وهذا كان يسعدني وأخواتي كثيرا ويجعلنا نؤكد دائما على أهمية عدم إغفال هدية أمي في العيد .
أعياد كثيرة بعدها جاءت ورحلت ورحل معها أشخاص لم يعودوا حاضرين ليزينوا قلوبنا سعادة مثلما كانوا يفعلون ، و رغم ذلك يبقي العيد حاضراً كل مرة في فرحة الطفل الذي يمسك نقود العيدية بيديه الاثنتين وهو يفكر بعدد الألعاب التي يمكن أن يشتريها بذلك المبلغ البسيط !
تونس المحروقي
No comments:
Post a Comment