كنت أقلب صفحات كتاب - يرجع تاريخ ملكيتي له إلى أيام الدراسة الجامعية -عندما وجدت العديد من أوراق الملاحظات الصفراء داخل هذا الكتاب ، حينها تذكرت أن تلك الأوراق الصفراء هي أهم الأشياء التي رافقتنا في مرحلة الدراسة ، فقد كنا نستخدمها في كتابة شرح الفقرات الغامضة في الكتاب ليسهل استذكارها فيما بعد و كتابة الملاحظات التي يلفت انتباهنا إليها بعض الأساتذة ، والأهم من هذا وذاك كانت الطالبة منا تستخدم تلك الأوراق أو مثلما كنا نطلق عليها " النوتات " في كتابة الملاحظات على أبواب الغرف ، حينها كانت الأبواب وكأنها لوحة إعلانات وتلك الأوراق بمثابة " بوسترات" مكتوب عليها صيغة الإعلان مع بعض الرسومات حيث تتفنن الواحدة منهن في رسم صور مرعبة عندما تكون رسالتها تحمل صيغة تهديدية كأن يكون نص الرسالة " أنا نائمة أرجو عدم الإزعاج ، مهما كانت الأسباب وإلا ! وترسم بجانبها بعض الرسوم التي تعنى أن الفتاة التي ستوقظها ستتعرض للخطر من جراء هذا الإزعاج و آخرى تكتب رسالتها على هذه الورقة لصديقاتها بعبارة تقول فيها " أنا ذاهبة إلى المكتبة ولن أعود قبل الخامسة ، لا تأكلن الفواكه التي توجد في ثلاجة الجناح لأنني اشتريتها للسهرة !" وغيرها من الملاحظات التي تستوقفنا كثيرا ونقف بالدقائق لنضحك ونحن نقرأها حتى أصبحت لدى العديد من الطالبات عادة المرور على الوحدات السكنية بعد العشاء لقضاء أوقات ممتعة في قراءة تلك الملاحظات التي تختلف طرق كتابتها حسب الكليات التي تتنمى إليها الطالبات ودرجة مهارتهن في الرسم والقدرة على التعبير والإمتاع أحيانا !
ولا تنتهي قصص أوراق الملاحظات عند أبواب الوحدات السكنية بل تتعداها لتصل إلى الكليات وقاعات الدرس فقد كانت هذه الأوراق بمثابة الوسيلة التي تستخدمها الطالبات في التخلص من الملل الذي يرافق بعض المحاضرات فمبجرد أن يتسرب النعاس إلى أجفانهن حتى تبدأ هذه الأوراق بالانتقال بين أيدي الطالبات ، فالأولى قد تكتب مثلا " المحاضرة مملة " فترد زميلتها في نفس الورقة بعد أن تصلها " و ما الجديد ؟ نحن متعودات على الملل في هذه المحاضرة " وتطير الورقة إلى الصف الخلفي من الطالبات فتكتب ثالثة " ألا يوجد لديكن أبيات شعرية جديدة تخلصنا من هذا الملل ؟ وتبدأ بعدها كلمات الشعر والعبارات الرقيقة تكتب على هذه الورقة الصفراء ، والمحاضر يشرح ويحلل ويفسر والطالبات في عالم آخر ، فعن طريق هذه الأوراق يتم تبادل مختلف المواضيع والقصص والأحداث التي تجرى في الجامعة وسرعان ما يتم تغيير هذه الأوراق فور انتهاء مساحتها ، و أحيانا قد يضع الحظ السيئ إحدى الطالبات المجتهدات بين هؤلاء الطالبات المشاكسات ورغم عدم رغبتها في المشاركة في هذه الرسائل إلا إنها تجد نفسها في كثير من الأحيان مطالبة بإيصال الورقة إلى زميلتها التي تجلس بالقرب منها وتظل طوال فترة المحاضرة تقوم بدور ساعي بريد لتلك الأوراق وإن فكرت بالاعتراض على هذا الوضع ستجد أن عداوة مفاجئة قد نشأت بينها وبين تلك الطالبات لأنها حسب رأيهن لم تكن متعاونة معهن في القضاء على ساعات الملل التي يسببها لهن ذلك المحاضر !
وتستمر تلك القصاصات في تنقلها بين الصفوف حتى تنتهي المحاضرة فتؤول جميع أوراق الملاحظات التي كتبت إلى إحدى المشاركات في الكتابة حتى تكون بمثابة الذكرى كما يتم تدوين تاريخ اليوم التي تم فيها تبادل هذه الأوراق وهكذا تنتهي المحاضرة دون أن تستمع هذه الطالبات لشرح المحاضر الذي أرهق نفسه دون أن يجد لشرحه صدى عند الصف الخلفي من الطالبات وربما يكون الوضع مشابها عند الطلبة في الصفوف الأمامية وإن اختلفت موضوعاتهم المطروحة للنقاش !
وقبل نهاية مرحلة دراستنا الجامعية بدأت أوراق الملاحظات تظهر بألوان وردية وبرتقالية وزرقاء وغيرها من الألوان الزاهية وهذا كان يعطى للطاولات والأبواب التي تلصق عليها بهاءا وجمالا أكثر،كما يشجع الطالبات على الاستمرار في تلك العادة في تبادل تلك الأوراق التي لم تتوقف خلال المحاضرات في سنوات دراستي الجامعية .
لم يعد الآن لأوراق الملاحظات تلك الأهمية التي كانت لها في السابق فقد حلت محلها الرسائل النصية" مسجات " التي تصل في ثواني للشخص الذي نريد إيصال رسالة له فبدأت تلك الأوراق في الاختفاء من الأبواب ومن قاعات الدرس واقتصر دورها على استخدامها لكتابة تفسير المعاني الغامضة في الكتاب في حين أصبح التواصل التكنولوجي أكثر وضوحا ولكن لازال لتلك الأوراق مكانة في قلب من عاش تلك التفاصيل وجرب فكرة أن يكتب على ورقة صفراء أو وردية أو حتى بيضاء !
تونس المحروقي .
.