إهداء : إلى كل من يفاجئهم قدرهم بأن يضعهم وجهاً لوجه أمام حقيقة أن الحياة لن تمضي برغد كما كانت ، كونوا في نضالكم النفسي القادم بخير !
صديقي الذي لا يقرأ لي : لن أكتب الديباجة التي تعود عليها الناس في مقدمة رسائلهم فذلك بيننا عهدًٌ ولى وانصرم. هل تتذكر كيف كنت أكتب برسميةٍغريبةٍ جداً يوم أن كانت جبال الثلوج مازالت ممتدة بيننا، كنت ابدأ رسائلي بعبارة : السيد فلان تحية طيبة وبعد ، ما أسذجني ! أين كان عقلي يومها؟ أما الآن فأنا هنا بدون مقدمات اذكرك أني أخبرتك في رسالة سابقة أنني لن أكتب لك ما حييت،نعم قلت ذلك رغم أني أكتب لك الآن ، فأنت ياصديقي تستفزني بعدم ردك على رسائلي الذي يجعلني أشك في أنها لا تصلك،مع أن ساعي البريد أقسم لي مراراً أنه رأك تحمل الرسائل وأنت في طريقك للبيت صباحاً ، هو كذلك سألني كثيراً عن طبيعة عملك الذي يجعلك تعود لمنزلك وقت مغادرة الناس لمنازلهم، لكني اكتفيت بالصمت، هو أيضاً تبرع من نفسه تأكيداً على رؤيتك بأن وصف لي نظارتك التي مازلت تلبسها مع أني قلت لك عدة مرات في رسائلي أنها بشعة جداً وأرسلت لك نظارة مع إحدى رسائلي اشتريتها لك من تايمز سكوير في نيويورك، عندما كنت في رحلتي الصيفية إليها هذا العام ، نظارة تليق بوجهك من ماركة معروفة جداً ، لا كتلك التي تتمسك بها !
هذا ليس موضوع رسالتي على أية حال ، فأنا هنا لأذكرك أني قد أخبرتك أن واحدة من صديقاتي خيرتني بين الكتابة إليك وقربها بعد أن ضاقت ذرعاً بحديثي عنك ، فاخترت قربها طبعاً ، لأنك فقط تستفزني وهي تحبني ! لكني اليوم يا صديقي أخلف وعدي لصديقتي، كي أكتب لك ، وربما سأواصل الكتابة لك حتى آخر العمر ، وآخر العمر هذا ياصديقي قصة طويلة لا نعرف ملامحها ، لكن الأقدار قد تقرب لنا هذا المشهد أحياناً وفي غفلة منا!
لا أعرف كيف ابدأ ياصديقي ، فاليوم حدث شيئاً يستحق السرد هنا ، فقد ظهرت نتائج فحوصات أجريتها لمعدتي جراء بعض الآلام التي أصبحت تزورني بتكرار مؤخراًً، أنا لم أكن لأذهب للفحوصات لولا أن ذلك المغص الموجع الذي يتكرر كل يوم يشعرني أن أحدهم يستخدم منشاراً في معدتي ، وكأني غابة شجر كبيرة يتم قطع شجرها بلا توقف ،هل تخيلت الوجع ؟ نعم هذا ما أشعر به بالضبط ، وهذا مادفعني رغماً عني للذهاب لهذا المشفى الغريب في تعامله ، إذ أني عندما وصلت للقسم المعني رفضت الممرضة أن تعطيني نتائج الفحوصات في يدي ، واقتادتني لممر طويل ثم توقفت عند مكتب وتحدثت في الهاتف وذكرت اسمي دون أن تذكر أي معلومات أكثر ، يبدو أنها أخبرت الطبيب بمقدمي ، وكأني في أحد المسلسلات البوليسية التي شاهدتها كثيراً في طفولتي.
خرج الطبيب وطلب مني الدخول لمكتبه ، نظر ملياً في وجهي ثم سألني عن عمري وكان يكفيه النظر للملف ليعرف ذلك ، لكنه فضل أن يسألني ، بلع ريقه بعد أن عرف أو ربما أنا من تخيل ذلك ، لا بأس المهم أنه بدأ في التحدث عن فكرة الحياة والموت ، والايمان بالقضاء والقدر وكأنه يسترجع معي مادة التربية الإسلامية منهج الصف الأول ، لا وقت للتهكم، أعرف ذلك ، لكني لا أعرف لماذا شعرت حينها أنه أصبح واعظاً فجأة وأنا لا أحب الوعاظ، لا أحبهم لأنهم يعتقدون أنهم يمتلكون كل الحقيقة ولا أحد في الحياة يمتلك ذلك يا صديقي !
بعد مقدمات غير مفهومة وغير مبررة ، أخبرني ووجهه محرج لا يرفعه في وجهي وكأنه سيخبرني أن زوجي تزوج عليّ دون علمي ،رغم أني لست متزوجة، قال بكلمات ثقيلة : أنت مصابة بسرطان في المعدة، ثم صمت كل شيء فجأة وكأني فقدت سمعي ، كان يتكلم ، شاهدت شفتاه تتحركان لكني لم أعد أسمع !!
سرطان في المعدة ياصديقي!! نعم سرطان في المعدة ، يعني كل الخضروات والفواكه التي تناولتها لم تحمي جسدي من المرض ، وماذا عن جالونات المياه التي شربتها والتي علق مرة عليها زميلي في العمل وهو يراها قائلا : هل لديك عزومة ماء اليوم ؟ أين نصائح أخصائيّ الصحة والتغذية التي حرمتني من أشياء كثيرة أحبها وجعلتني متقيدة بأكل معين يقال عنه صحي وكأني مقيمة دائمة في جناح في المستشفى ؟
أين ذهبت كل جهودي تلك ؟
ماذا عن حصص الرياضة التي لأجلها كنت أقطع عشرات الكيلومترات يومياً لأصل للنادي وأتحمل ثقل دم المدربة وتعليقها المستمر أنني لا أجيد تمارين "الزومبا" كما ينبغي مع أني بحسب قولها أكملت عاماً ويفترض مني أن أكون خبيرة ! لو أصبحت أنا كمتدربة خبيرة فماذا ستكون حاجة النادي إليها ؟!
ثم ماذا عن أحلامي التي أعلقها في مرآة غرفتي والتي أشاهدها حية وأنا أضع ماكياجي صباح كل يوم ؟ وأمي التي تسألني بعد أن فشلت في دراستي متى ستتزوجين ؟ متى سيلين رأسك وتوافقين على ابن الجيران الجامعي الذي يحبك مند سنوات، كيف سأخبرها أنه لن يكون لدي متسع من العمر لأسعدها ، وأحقق لها حلمها في الزواج من جامعي؟ ولا حتى مادون ذلك.
وأخي اللطيف الذي يحبني جداً والذي يلح علي في كل عودة من بلد ابتعاثه أن أذهب مرة معه لأشاهد مدينته كي أتحمس للدراسة وأدرس "البكالوريا" من جديد لأحقق نسبة أعلى ، وفي كل مرة أرفض كي لا اتذكر فشلي في تحقيق حلم أمي في الدراسة الجامعية.
ماذا سأقول لأختي التي في كل مرة تعود فيها من جامعتها العادية جداً حتى في درجات قبولها ، تعيرني بأني لا أصلح للدراسة وأني الوحيدة في عائلتي التي لم تنجح وأن عملي سيستغنون عني قريباً ، لأني لست متعلمة تعليم جامعي ، هل ستحزن عندما تعرف مرضي وتعاملني بلطف ؟
أعرف أنهم جميعاً يرونني فاشلة ، لكن لدي أحلامي التي لم أخبرهم عنها.
من قال لهم أني لا أرغب في دخول الجامعة ؟ أنا فقط لم استطع أن أحصل على الدرجات المناسبة ، الدراسة كانت صعبة جداً وكنت أيامها مشغولة بدورات التجميل التي التحقت بها ، لم أنجح في تحقيق درجات مناسبة لكني لست فاشلة بل جامعاتنا فاشلة باشتراطها درجات عالية، لكني كنت قد قررت أن أعمل عدة سنوات أوفر فيها مبلغاً جيداً ثم أذهب لدولة أوروبية أدرس في إحدى جامعاتها التي لا تشترط النسب العالية ، كنت متأكدة أني سأفعل ، كان لدي احساس أني سأتفوق حتى ساعي البريد يقول لي في كل مرة ألتقيه أن شكلي متفوقة فلماذا لا يخبرهم بذلك ؟
صديقي الذي لا يقرأ رسائلي : لا أعرف كيف يمكنني إخبارهم ، أنا خائفة من ردة فعلهم أكثر من خوفي من العلاج إن وجد ، وأكثر ما أخشاه أن تحزن أمي فلا أعود أرى سعادتها كلما ذكرت ابن الجيران وتباهت بأن ابنتها الفاشلة لازالت مرغوبة من الجامعيين وذلك بسبب جمالها الذي ورثته منها ، أخشى كذلك ياصديقي من أن يختفى احساس الانتصارمن عينيّ أختي في كل مرة تتحدث عن جامعتها ، أخاف أن يترك أخي جامعته العريقة كي يرافقني في رحلتي الطويلة للمستشفيات ، أخشى ياصديقي من أن لا يتصرفوا بطبيعتهم ، أن يتصنعوا في تعاملهم معي ، شفقة بي.هل تفهمني ؟
أنا خائفة ياصديقي من أن أمضي إلى الموت وأنا وسط عائلتي التي تبكي في سرها وتضحك في وجهي كي لا أعرف أن أيامي قصيرة ، مع أني أدرك ذلك منذ أن أخبرني الطبيب بمرضي ، فجولة في الانترنت تمنح فكرة وافية عن الأمر !!
كيف سأخبر جهة عملي بالأمر ؟ كيف سيتلقى مديري الخبر ؟ كم كان طيباً معي وشجعني على أن أكمل دراستي ، كم سيحزن عندما يعرف ، ربما يبكي ، لا ، لا اعتقد أنه يفعل ، فزوجته تغار عليه كثيراً مني وهو يعرف ذلك ، ربما سترتاح الآن حين تعرف أني سأغادر.
ماذا عن زملائي؟ هل سيفقدون غياب الزميلة الوحيدة لهم في العمل ؟ هل سيحزنهم ذلك ؟ ربما لا ، فغيابي يضمن لهم أن يجلسوا في مكاتبهم بالشكل الذي يروق لهم دون مراعاة وجود فتاة في الأنحاء !
تذكرت ياصديقي أنني أيضاً لم استخدم كل عطوري الباريسية التي اقتنيتها، مازالت متكومة بإهمال في أكياسها ،ولم يرني الناس بالملابس الجديدة التي اشتريتها من رحلتنا العائلية الأخيرة ، من سيلبسها بعدي ؟ أختي لا تحب ذوقي في الملابس تقول أنه متواضع جداً وهي تحب القصات الجريئة والألوان الصارخة، حمقاء هي !
حقائب يدي اللاتي كانت صديقاتي يطلبن استعارتها في كل مناسبة وكنت أرفض لكني ألين قبل مناسباتهن بأيام فأعطهن الحقائب مع قائمة نصائح طويلة في كيفية العناية بها. لمن ستؤول ملكيتها ؟ وأن كنت أعرف أن صديقاتي لن يمانعن في أخذها بعد وفاتي ، تباً لهن ، كيف يتمتعن بحقائبي وأنا ميتة !!
حقائب الماكياج التي احتفظ بها في غرفتي والتي أكاد أجزم أنه لا يوجد امرأة في الكرة الأرضية لديها عدداً مماثلاً لما عندي منها ، من سيهتم بها خلال إقامتي الدائمة في المستشفى؟ من سيتذكر أن يفتحها لتهويتها واستخدامها حتى لا تجف مكوناتها ؟
حصص الرياضة التي ستفوتني هل سيقبل النادي تعويضها لي مالياً ؟ هل لو قدمت لهم أوراق المستشفى التي تثبت مرضي سيقتنعون ؟
صديقتي ليلى من سيعتني بطفلتها الجميلة التي تحضرها لي في كل مرة ترغب في أن تخرج مع زوجها لعشاء رومانسي ؟ ونجلاء من سيعمل لها ماكياجها في كل حفلة تذهب إليها وما أكثر حفلات الزفاف وأعياد الميلاد التي تحضرها وكأن أهلها يحتلون مدينة بكثرتهم ، اللهم لا حسد!
أنا خائفة ياصديقي من غيابي عن كل هذه الحياة التي كنت اعتقد أني سأعيش فيها طويلاً جداً ، على الأقل أطول من عمري الحالي بعشرين عام أو ثلاثين ، لا أظنني طلبت الكثير !
سأخبرك سراً وأنت تعرف سذاجة أسراري ، أنا أكثر ما يشغلني حالياً هو أن تصلك رسالتي فلا تكتب لي ، تقرأ الرسالة ثم تعود لممارسة حياتك بشكل اعتيادي ، أن ترميها في أقرب سلة مهملات ، خائفة من أن أرسل لك رسالتي هذه طمعاً في قربك فلا تكترث، ولا تضطرب حياتك بعد الخبر ، فأموت كمداً قبل موتي المنتظر،نسيت أن اسأل الطبيب عن موعده ! خائفة ياصديقي وخائفة أكثر يا ساعي البريد من أن تكون رسائلي هذه لا تصل ، ولا تُقرأ ، وأنك أقسمت لي كذباً جبراً لخاطري ، أو أن تكون نظارتك البشعة أنت أيضاً صورت لك رؤية خيال على هيئة صديقي الذي لا يقرأ رسائلي !
تونس المحروقي
المنزل في الخوض / مسقط
٣٠ يوليو ٢٠١٧
الرسالة التي بدون ديباجة ومقدمة احرقتني ألماً
ReplyDeleteهل هذه من وحيي القصص أو شيء حقيقي بك ؟