Wednesday, 20 December 2017

قلم أحمر وتعليم عالٍ بلا درجات.


إلى أستاذي الجامعي الذي كلما أقنعته بفكرة في رأسي وباركها ، شعرت أني حصلت على درجة أكاديمية عليا في مجالي : شكراً على مبادئك ودقتك ، وقلمك الأحمر!

في السنة الجامعية الثانية في مرحلة دراسة متطلبات درجة البكالوريوس في جامعة السلطان قابوس وبينما كنت أدرس مقرراً يدعى " التحرير الصحفي " ، تفاجأت في إحدى المحاضرات أن أستاذ المقرر من إحدى الجنسيات العربية لم يدخل علينا كعادته في توقيت المحاضرة بل جاءنا محاضرعماني كنت أراه للمرة الأولى ، سلم ثم عرف بنفسه وقال :سأكون معكم اليوم بدلاً من المحاضرالأساسي بسبب تعرضه لوعكة صحية أرقدته في المستشفى لأيام ، ابتسمت في داخلي وقلت: يعنى جاي حصة احتياطي ؟ وتهيأت أن أقضي المحاضرة في الحديث إلى زميلاتي القريبات اللاتي تجمعنا المحاضرات ثم تذهب كل منا إلى سكنها الجامعي ، لكنها لم تكن أبدأ حصة احتياطي !

لم يحدثنا هذا الأستاذ عن الدرس الذي كنا ننتظره من أستاذنا العربي ، بل تحدث بأسلوب قريب جداً عن أهمية القراءة لمن يدرس في تخصص الصحافة ، سألنا عن نوعية ما نقرأه ووجه قراءاتنا نحو خيارات أغلبنا لم يعهدها  ، كانت محاضرة فتحت عيناي على قيمة ما أدرسه ومسؤوليتي تجاه نفسي وتطويرها الذي ليس بالضرورة أن يكون أكاديمياً، كانت محاضرته حالمة بالنسبة للبعض لكنها لم تكن كذلك بالنسبة لي !
انتهت المحاضرة وذهب الأستاذ لمكتبه وربما نسى ما قاله لنا ، وذهبت أنا إلى المكتبة الرئيسية و بدأت أفكر في كل ما قال ، كنت حينها قارئة نهمة جداُ في مجال الروايات والتاريخ ، لكن خيارات القراءة التي وجهنا إليها كانت غائبة جداً عني، ربما لأنها كانت ثقيلة في وقتها وكئيبة وصفحات كتبها كثيرة.
مر الوقت وحديث ذلك الأستاذ عن تطوير وتأهيل القدرات لايغادرني ، فوجدتني أطرق باب الكتابة في الإصدارات التي تصدر من جامعة السلطان قابوس حينها ومنها ملحق أنوار ونشرة المسار ولجأت لهذا الأستاذ لكي يطلع على أول خبر صحفي كتبته ، واذكر أنه كان في يده قلم أحمر عندما قصدته في مكتبه صباحاً ، فقام بتعديل صياغة الخبر لدرجة لم أعد فيها أتبين الخبر الأصلي الذي كتبته ، وعندما لاحظ شعوري بالإحباط قال : إن كان كل ما تكتبينه سيكون رائعاً من المرة الأولى ، فكيف يمكن أن تتعلمي من أخطائك ؟ ومن يومها وأنا لا أطلب كمالاً فيما أفعله، وأواصل التعلم دون توقف .

راجع لي بعدها تحقيقات واستطلاعات وحوارات وكعادته كان دقيقاً جداً في عمله ، تلك الدقة التي نضيق ذرعاً بها في وقتها قبل أن ندرك أنها ستطورنا ، كان في كل مرة يقرأ لي شيئاً يعطي ملاحظات متعددة ، فمرة يقول  : وحدي زمن الأفعال ، لا تأتي مرة بفعل ماضي وفي نفس الفقرة فعل مضارع ، ومرة لا تستطلعي آراء أقربائك في الاستطلاعات الصحفية التي تجرينها وابحثي عن أشخاص لا تربطك بهم قرابة ، ومرة  تجردي من شخصيتك عندما تكتبين وغيرها الكثير من النصائح التي لصرامتها في كل مرة أخرج من مكتبه أقسم أن لا أعود ، لكني بعد كل مرة كنت أعود!

جاء يوم وأنا في السنة الثالثة في الجامعة وطلبت تدريباً في أحد المؤسسات الإعلامية ولم يكن مفروضاُ لطلاب السنة الثالثة لكني أبديت رغبتي في التدرب ، وتمت الموافقة لي على التدريب من الكلية وبدأت في الانتظام بالذهاب لجهة التدريب ولأني لم أكن أحصل على درجات على ذلك التدريب لكون المقرر غير معتمد في الخطة  الدراسية ، فكان يحدث أن أذهب أحياناً لجهة التدريب وأتكاسل عن ذلك أحيان آخرى حتى استدعاني هذا الأستاذ في مكتبه وبعد عبارات عن إيمانه بأن لدي مهارات جيدة في مجالي، قال لي عبارة لم تعد تفارقني فكرتها : إن أبديتي رغبة في عمل شيء وتمت الموافقة لك على  فعله ، فيجب أن تكمليه أو باختصار لا تتطوعي لفعله من البداية !
مر الزمن وتخرجت من الجامعة وذهبت لدراسة الماجستير في استراليا ، وعندما عدت ووجد اسمي في قائمة المقبولين لدراسة متطلبات الماجستيرفي الصحافة والنشر الالكتروني في جامعة السلطان قابوس سألني : لماذا ماجستير ثاني ؟ وكنت أشعر أني في امتحان آخر غير الامتحان والمقابلة اللذان خضعت لهما من قبل الكلية، والحمد لله أني اجتزته عندما أقتنع بوجهة نظري.
الدكتور عبدالله بن خميس الكندي الأستاذ المشارك في قسم الإعلام بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس نموذج للأستاذ الجامعي الذي يفتح في أذهان طلابه الأسئلة والرغبة في البحث للحصول على المعرفة ، فالدراسة الجامعية بالنسبة له ليست حضور محاضرات وتسليم متطلبات تؤدي إلى درجات معينة ، بل أن يساعد طلابه في التعلم واكتساب مهارات حياتية لا ينتهي أثرها بتسلم درجات المقرر الأكاديمي.
أستاذي العزيز : لكل المرات التي خرجت من مكتبك وكنت أشعر أنك لا تؤمن بقدراتي الصحفية لكثرة تعليقاتك على ما كتبت : شكراً على كل شيء ، بصدق جداً ، شكراً.

تونس المحروقي 

بيتنا

٢٠ديسمبر ٢٠١٧

Tuesday, 12 December 2017

أختي وطريق طويل وامرأة قد تبدو مسنة !

تحذرني أختي دائماً من إيقاف مركبتي لأي ظرف كان لنقل النساء اللاتي نراهن على جوانب الطرق الرئيسية الممتدة السريعة واللاتي لا نعرف عادة من يتوقعن أن يقف لهن في هذه الطرق وإلى أين يتجهن ؟

تعرف أختي أن مشاعري تتعاطف كثيراً مع البشر دون تمييز لطبائعهم فتقول محذرة : ألم تسمعي قصصاً كثيرة عن جرائم السرقة ؟ ألا تخافي من أن تكون من تتعاطفين معها متنكرة في زي امرأة وهي ليست كذلك، أسمع تحذيراتها المحبة وأقول في نفسي يبدو أن مشاهدة الأفلام المصرية التي تدمنها كثيراً أثرت في طريقة تفكيرها.

هذه المرأة كانت في أحد الشوارع الداخلية في محافظة مسقط،يبدو للوهلة الأولى أنها في منتصف مرحلة الخمسينات ، دفعني فضولني للتوقف لها رغم أنها لم تستوقفني ، سألتها : خالتي وين تريدي تروحي ؟ ردت بأدب جم دون أن تخبرني وجهتها  : بنتي عن أخرك ! بعد جدال : ركبت وأول ما فعلته عند ركوبها السيارة هو أن خلعت نعليها ، شعرت بتوجس للحظة ، عادت كلمات أختي لذهني لتنبهني ،هل ستضربني بها فأفقد توازني في القيادة أم ماذا ؟ لكنها عاجلتني بقولها : أخاف النعال بنتي يوسخ سيارتك ! ياااه يا خالة ، سيارتي قديمة جداً ولايبدو عليها أي نوع من الرفاهية حتى تخافين أن تتسخ!! كم يحرجني أدب تعاملك ويخرس أصوات تحذيرات أختي !!   

أخبرتني بعد تعارف بسيط أنها من إحدى القرى القريبة جداً من محافظة مسقط وأنها تأتي يومياً صباحاُ  كي تعتني بطفلة إحدى قريباتها التي تعمل في مؤسسة حكومية ، إذ تبقى مع طفلتها وتطبخ لهم غدائهم ثم تغادر بعد عودة قريبتها من العمل لتعود لمنزلها في ولايتها برفقة جارتها الشابة التي تعمل في إحدى مؤسسات القطاع الخاص .

قالت بفكاهة ساخرة : "ترى ما أحد طاع يعلمني سياقة عشان كذا كلما تطلع جارتي إجازة ، أتبهدل أنا في الدروب كما تو تشوفيني كذا"

تحدثت عن بناتها اللاتي يدرسن في المدارس وبنتها التي " ماجابت مجموع " والحين تنفعها جالسة في البيت تساعدها في شغل البيت ، كانت تعتذر مني بمعدل مرة كل 5 دقائق على أنها تسببت في تأخيري عن حياتي ،ورددت أنها كانت ستذهب بسيارة أجرة ، ثم ترجع لتتحدث عن أبنائها الذين استقلوا بحياتهم وتركوها مع بناتها لتخرج إلى العمل وهي بهذا العمر ، ثم تصف من تعمل معهم أنهم طيبون لكن " طلعة الصبح " وتركها منزلها لنصف يوم مهملة لبناتها من أجل ١٠٠ ريال متعبة ثم تعود لتحمد الله على النعمة وتقول أن وضعها أحسن من بعض جاراتها اللاتي يحسدنها على هذه النعمة.

بين حديثها الذي لم ينقطع وعدم حاجتي لسؤالها لأنها لم تتوقف عن الكلام وكأنها أخيراً وجدت من يسمعها ، وصلنا لوجهتها وقبل أن تنزل عرضت عليها مبلغاُ من باب أني في مقام إحدى بناتها رفضته بأنفة وعزة وقالت : أنا راتبي 100 ريال والله والحمد لله " كي حتى جارتي فاطمة تبغى تحصل مثل شغلي ، وأنا تو أدور لها "، نزلت من سيارتي وأغلقت باب السيارة بحرص شديد وكأنها تتعامل مع سيارة فارهة وليست سيارتي القديمة جداً ، راقبتها بنظري وهي تبتعد، وأنا اتذكر كل ما قالته وفجأة علت وجهي ابتسامة متسعة جداً وأنا انتبه 

أني نسيت في غمرة قصصها أن اسألها عن اسمها! 


تونس المحروقي 

المكتبة الرئيسية بجامعة السلطان قابوس

الساعة ١٠ مساءً 

١٢/١٢/٢٠١٧


 

 

 

Friday, 8 December 2017

رسالة إلى الجنة!



إلى سالمة بنت سعيد " أمي " : مر زمن طويل منذ أن رحلتِ ، ومازلت كل صباح أقول لكِ في سري : "ماه ،مو صبحتِ " ؟ ولا أتلقى الجواب !!


عاطفية أنا قليلاً يا أمي وأعرف ذلك ولا يزعجني الأمر ، رأيتك مراراً في طفولتي تشرحين موقفاً ضايقك من أحدهم وقبل أن تنهين جملتك الثانية تنخرطين في بكاء تحاولين أن لا تظهرينه أمامنا فتنهرينا لنخرج من مكان فضفضتك مع جارتك ، أنا مثلك يا أمي عندما أختنق بكلماتي أبكي كما لايليق بقوية وكما لم ترغبي أن تظهري أمامنا !


أمي هل كنت تعرفين وأنت ترافقيننا إلى المدرسة في صفوفنا الدنيا أنك لن تكوني موجودة لتشهدي نجاحات أي منا نحن بناتك الست ؟ وهل لو عرفتي كنت اهتممتي بتعلمنا كما كنت تفعلين ؟ هل تذكرين المرة التي حصلت على المركز الثاني على الفصل ويومها كذبت عليك كي أنفذ من عقابك لكنك عرفتِ وغضبتِ؟!ظللت سنوات المدرسة متعجبة من أن أكون متفوقة وأتعرض للعقاب في كل مرة يخونني اجتهادي ولا أكون الأولى على الفصل، لكني فهمت أسبابكِ بعد أن رحلتِ. 


هل تتذكرين الرحلة المدرسية التي شاركت فيها بسبب تفوقي وشاء القدر أن تتعطل الحافلة وبدلاً من أن نعود عصراً عدنا في التاسعة مساءً ؟هل تتذكرين ذهابك لمنزل عائلة المعلمة المرافقة لنا لعلك تحصلين على اطمئنان يهدي قلقك علي ؟ لأكن صادقة معك يا أمي أنا لم يقلق علي أحد بعدك،ذلك القلق المحبب الذي لا يخنق !


هل تتذكرين فرحتنا عندما كان أبي يخبرنا أننا سنذهب في رحلة خارج ولايتنا البعيدة ؟ هل تتذكرين كيف أني وأخواتي كنا نخبر الجميع أننا سنسافر وكأننا سنسافر لباريس وليس لمدينة قريبة لا تبعد سوى ساعتان بالسيارة ؟ 

هل تتذكرين صحونا قبل آذان الفجر وقبل أن يصحو أبي ، وتحضيرنا ما سنحمله معنا من وجبات ؟وكأننا متجهين لصحراء وليس لطريق على امتداده محلات ومطاعم كثيرة. 


هل تذكرين ال١٠٠ بيسة التي كنتِ تعطيني وأخواتي وأحياناً لا تستطيعينها فتعطينا من الطعام الموجود في البيت ؟ هل تتذكرين كم كنت أرفض وأقول لك "أنا الأولى على الصف ومايصير ما يكون عندي فلوس عشان اشتري من الجمعية " ليتكِ بقيت وأقسم لك أني لم أكن لأطلب منك شيئاً !


أمي كنت تحرمين علينا في البيت التلفظ بكثير من الكلمات التي كنا نسمعها في المدرسة وعند الجيران وبالقرب من بيت جدي وجدتي ، نعم كنت تحرمينها لدرجة عندما نسمع أي منها كنا نقول استغفر الله !

لم تقبلي أن نتلفظ بتلك المفردات رغم أنها بمقاييس الأمس واليوم ليست بذلك المستوى السيء من قلة التهذيب ، هل تعرفين يا أمي أني لم استخدمها رغم أنك رحلتِ منذ زمن طويل ورغم أن العالم أصبح ملوثاً بكلماته النابية لكني على عهدي معك وكأنك مازلت هنا !


هل تذكرين الشتاء و أغطية أسرتنا التي نسحبها للصالة وصراخك في كل مرة أن الجو ليس بارداً بما يستدعي أن نسحبها ونتغطى بها ونحن نشاهد التلفزيون ومسلسل الساعة التاسعة تحديداً وقولك المتكرر " لو تو حد جاء البيت وشاف الصالة كذا أيش رح يقول "  هل تعرفين يا أمي أنه لم نعد نفعل ذلك منذ رحيلك !!


هل تذكرين حساءك الشتوي " الشوربة" هل تتذكرينها ؟ هل تتذكرين حبي لها، لم أعد أتناولها منذ أن غادرتِ ، أشاهدهم يشربونها وأقول ببلادة أنا لا أحب تناول المشروبات الساخنة !


أمي هل تتذكرين الدجاج الذي كنت تربينه في المنزل  وكنتِ تحبينه كثيراً وكم سمعتك وأنت تحدثينه عن بعض همومك ! بعدك يا أمي لم يعد لدينا حيوانات ولا طيور في المنزل ، حتى القطط التي لم تحبينها يوماً ودخلنا في جدال طويل معك لتقبلي وجودها في المنزل رحلتِ جميعاً يوم غادرتِ ولم نحرص على إحضار غيرها. 


أمي مر زمن طويل جداً منذ أن رحلتِ وأنا أفتقدك جداً لكني لا استطيع الكتابة لكِ لأني لا أعرف إن كان في عالمك شكل من أشكال الارتباط بعالمنا ، هل تتذكريني يا أمي ؟ أنا تونس رابع بناتك وأكثرهن تعلقاً بك ووجعاً لغيابك !

أنا تونس ، أكتب عنك وكأنك رحلتِ بالأمس ، مع أنهم يقولون ننسى بعامل الوقت ، نحن لا ننسى يا أمي ، لاننسى أحبتناالذين وارينا أجسادهم التراب،فقط يخف حديثنا عنهم،فيظهر علينا التأقلم، وما تأقلمنا،لكنه حزن عميق لا تتسع عوالمنا لسرد وجعه !


رحمك الله

بنتك تونس 


تونس المحروقي

من شرفة محطة الرمل !

من شرفة محطة الرمل . تونس المحروقي إهداء إلى : • الفتاة التي كانت تبيع حقائب الأجهزة الإلكترونية في محل متواضع ...